يعرف الكثيرون مملكة الحضر بأنها واحدة من أقدم الممالك العربية في الهلال الخصيب، وتحديداً في السهل الشمالي الغربي من وادي الرافدين، حيث يعود تاريخ تأسيسها إلى القرن الثاني الميلادي، وقد تمركزت في مدينة الحضر التي تقع على بعد حوالي 110 كم جنوب غرب مدينة الموصل، وتعاقب على حكمها أربعة ملوك استمر حكمهم قرابة 100 عام، وقد عرفت بأسماء عدة منها: حترا، والحضر، ومملكة عربايا، ومملكة الشمس، وتشير الدراسات التاريخية إلى أن تاريخ مدينة الحضر ضاربٌ في القدم، حيث عمرتها القبائل العربية لعدة قرون، وشيدت فيها مجموعة من المعابد والتماثيل، ولذلك فقد صنفتها اليونسكو كواحدة من أهم مواقع التراث العالمي.
تصميم مدينة الحضر
لقد ساهم الموقع الاستراتيجي لهذه المدينة في كونها واحدة من أهم المراكز التجارية في زمن السلم، حيث جاء في واحدة من أكثر المناطق انخفاضاً في بادية الجزيرة الفراتية، ما جعلها مركزاً لتجميع مياه الأمطار واستخراجها بكل سهولة، وقد تم تصميمها بطريقة تساعد في حمايتها من الهجمات المختلفة؛ حيث بنيت بشكل مستدير على دائرة يبلغ قطرها حوالي 2 كم، ثم أحيطت بسور خارجي يبلغ طوله 8 كم، وفيه 4 أبواب حصينة في الاتجاهات المختلفة، وتعلوه 4 أبراج مخصصة للحراسة، وهو مكون من جدارين تفصل بينهما مسافة 12 م، ويبلغ عرض كل منهما 2.5 م و 3 م.
أحيطت المدينة أيضاً بخندق يبلغ عمقه 5 م، وعرضه 8 م، ويعتقد بأنه كان يملأ بالماء لسببين هما: تأمين المزيد من الحماية خلال فترات العدوان على المدينة، أو لاستخدام الماء في ري المناطق المحيطة، وبعد هذا الخندق بحوالي 500 م بني سور المدينة الداخلي باستخدام الحجارة في الجزء السفلي واللبن في الجزء العلوي، وتم تدعيمه ب 163 برجاً دفاعياً تتفاوت في حجمها، وقوتها، وارتفاعها.
نتيجة لهذا الإبداع المعماري فقد كانت هذه المدينة قادرة على الصمود ببسالة أمام العديد من الهجمات التي تعرضت لها على مر العصور، وقد تم اتخاذ الصقر الفارد جناحيه كشعار مركزي للدلالة على قوتها وهيبتها، وذلك من خلال مجموعة من النصب والتماثيل لهذا الصقور.
خريطة مدينة الحضر
سكان مدينة الحضر
استناداً إلى العديد من الكتابات والإشارات التي كشفت عنها الدراسات التاريخية، فقد كانت هذه المدينة موطناً للعديد من القبائل العربية، إلى جانب الآراميين الذين كان لهم أثر ملحوظ في اللغة، والدين، والكتابة، والفنون، والذين كانوا وثنيين يعبدون اللات، والشمس، وبعل، وفيما بعد انضم إليهم أفراد وجماعات من اليونانيين في عهد الاسكندر وخليفته سلوقس، وكانوا حرفيين وتجار ومهندسين، وأفراد من الرومان، وأفراد من الفرثيين الذين كانوا تجاراً وجواسيس، ومع مرور الوقت توسعت هذه المدينة لتصبح أكبر مركز لتجمع القبائل العربية والآرامية في أعالي الجزيرة الغربية وأعالي دجلة والفرات، وأصبحت مقصداً للكثير من القبائل لتقديم النذور ونحر الذبائح في معابدها الكثيرة، وهذا بدوره ساهم في نهوضها وازدهارها الاقتصادي، ومكنها من إقامة المعابد الفخمة، والمباني الكبيرة، والتماثيل العملاقة التي لا تزال حاضرة حتى الآن في ربوع موقعها.
المظاهر العمرانية لمدينة الحضر
نتيجة لتعدد المعارف والثقافات لسكان هذه المدينة، فقد امتازت عمارتها بالريادة والتنوع مقارنة بغيرها من الحضارات التي مرت على بلاد ما بين النهرين، وقد تجلى ذلك في العديد من المظاهر العمرانية التي نذكر منها ما يأتي:
- إعطاء الخصوصية والأهمية للمبنى الواحد، وعدم جمع الأبنية واستغلال المكانات الفضائية، ويمكن الاستدلال على ذلك من تناثر الأبنية في المعابد الكبيرة والصغيرة، وعدم التصاق الغرف المشيدة على جوانب الفناء بالمصلى.
- استخدام الأواوين كعنصر أساسي في الأبنية العامة والخاصة وذلك بما يشمل: القصور، والمعابد، والبيوت، حيث يعرف الإيوان بأنه فضاء مغطى ومحمي من المطر وأشعة الشمس، والغرض منه هو إضفاء الجمال والفخامة على البناء.
- وجود نوعين مختلفين من الأبنية هما: الأبنية المشيدة باللبن والملاط الجص، والأبنية المشيدة بالحجر المنجور والجص.
معابد مدينة الحضر
المعبد الكبير
يقع هذا المعبد في وسط المدينة ويعد واحداً من أهم المعالم المعمارية الموجودة فيها، وكان يعرف لدى الحضريين باسم “هيكلاربا” أي بيت الآلهة، وهو عبارة عن مبنى مستطيل الشكل تقريباً ومشيد بألواح من الحجر والجص، ويحيط به سور ضخم له بوابة رئيسية على ضلعه الشرقي، و 11 باباً آخر موزعاً على بقية الأضلاع، كما يحيط به أيضاً شارع يبلغ عرضه حوالي 50 م من جميع الاتجاهات، وهو مقسوم إلى صحن وحرم وذلك بواسطة جدار فاصل يتعامد على ضلعيه الشمالي والجنوبي.
لقد كان هذا المعبد في ما مضى مركزاً للنشاط الديني والاجتماعي والاقتصادي للحضريين ولسكان جزيرة العراق كافة؛ حيث كان الناس يقصدونه من مسافات بعيدة لتقديم النذور ودفن الموتى، أما في صحنه الكبير فكانت تعقد الاجتماعات وتقام الولائم، وكان فيه أيضاً أماكن لإطعام الزوار وإيوائهم، ولجمع التبرعات وتوزيع الصدقات.
المعبد المربع
يطلق عليه أيضاً اسم معبد خلوة الشمس، وهو واحد من أهم وأقدس الأجزاء في المعبد الكبير وذلك لما له من أهمية في حياة المدينة والمناطق المجاورة لها، ويحتل مساحة تعادل 784 متر مربع بطول ضلع يعادل 28 م، ويمكن الدخول إليه عبر باب في منتصف الجدار النهائي للإيوان الأوسط، وذلك ضمن مجموعة الأواوين الجنوبية الموجودة في المعبد الكبير.
المعابد الصغيرة
توجد مجموعة من المعابد الصغيرة الملحقة بالمعبد الكبير وكل منها مخصص لإله معين، وهي متقاربة من ناحية التصميم، وقد بلغ عدد المعابد المنقب عنها حتى الآن 11 معبداً ونذكر منها ما يأتي:
- معبد شحيرو: يقع شرق الأواوين المتسقة بمواجهة الجنوب.
- معبد سميا: يوجد هذا المعبد في الجهة المقابلة لمعبد شحيرو، وقد عثر فيه على تمثالين أحدهما للملك سنطروق الثاني والآخر لعبد سميا.
- معبد مرن: شيد هذا المعبد على الطراز الأيوني، أي بصف واحد من الأعمدة وبدون زخرفة، وبحلول العصر الفرثي أضيفت حوله مجموعة من الأعمدة الكبيرة.
- معبد نركال أو نرجول: يقع هذا المعبد إلى الجهة الجنوبية من المعبد الكبير.
- المعبدان لبعلشمين وأترعتا: هما معبدان متجاوران يقعان عبر الشارع المحادي للمعبد الكبير من جهة الغرب.
- معبد شربل: يبعد هذا المعبد مسافة 125 م عن المعبد الكبير، وهو محاط بالشوارع من جهاته الأربع.
- معبد هرقل: يقع هذا المعبد إلى الجهة الجنوبية من المعبد الكبير، وقد وجد فيه تمثال كبير لهرقل، وبالقرب منه تمثال متوسط الحجم لسيدة يعتقد بأنها زوجته.
- معبد نركال: يقع هذا المعبد على مقربة من المعبد الكبير وله ثلاثة أبواب، ويمكن الصعود إلى سطحه بواسطة درجات شيدت بشكل ملاصق للجدار الغربي من الخارج.
معبد الإله نابو: يقع هذا المعبد إلى الجهة الجنوبية من سور المعبد الكبير، وله مدخل رئيسي من الجهة الشرقية تم تزيينه بالزخارف وإطار من حجر الحلان.